تفوح رائحة العبير من آلاف أعواد البخور المتواجدة في الواجهة الضيقة لمتجر شركة «وينغ لي جوس ستكز آند ساندلوود كومباني»، وهي شركة عائلية تقليدية في حي (يو ما تي) في مدينة هونغ كونغ الصينية.
تُخطط الجدران هناك بحِزمٍ من البخور الملون بلون ذهبي قرمزي لامع، لكن البخور الأكثر قيمة على الاطلاق مغطى بمعزل عن العطور السابقة، وضمن خزائن زجاجية، وهو خشب العود.
أعطت الرائحة الترابية اللاذعة لهذا الخشب هونغ كونغ اسمها، والذي يُترجم في اللغة الكانتونية إلى «ميناء العبق». تعد هذه الرائحة تذكيرًا مؤثرًا بالدور المحوري الذي لعبه هذا الميناء التجاري الاستعماري السابق، والذي أصبح الآن مركزًا ماليًا عالميًا، في تجارة البخور القديمة في الشرق الأوسط وما وراءه.
عمل (يوين واه)، الذي يبلغ من العمر 83 عامًا، في تجارة البخور لأكثر من 70 عامًا. وسّع ابنه (كيني)، الذي يدير الآن شركة «وينغ لي»، نطاق الأعمال ليشمل البر الرئيسي للصين، إذ افتتح متاجر في بكين وشنغهاي وهاربن. وعلى الرغم من تقاعده، لا يزال (واه) يزور متجره السابق في شارع شنغهاي.
يقول (واه)، فيما يستذكر الوقت الذي بدأ فيه العمل في الصناعة في سن الثالثة عشر: ”كان خشب العود دائمًا خشبًا باهظ الثمن. استُخدم في الماضي للطبابة باعتبار أنه مسكن جيد للآلام، لكن حالياً، لم يعد يُستخدم كدواء، بل يُستعمل في صناعة البخور“.
يُصنع خشب العود حين تتلف أشجار الأكولاريا (أشجار العود)، التي كانت تُزرع تقليديًا حول القرى بسبب خصائصها المرتبطة بفلسفة «فينج شوي»، مما يسمح للعفن بمهاجمة الأخشاب. عندما يحين وقت الحصاد، يُشّذب الخشب الأسود الصمغي المصاب ويُفصل عن الخشب السليم عديم الرائحة ذي اللون الكريمي.
هذا هو الصمغ الثمين الذي بُحِثَ عنه لفترة طويلة. يُعرف خشب العود باسم «ملك البخور»، وهو متداول على نطاق واسع في الشرق الأوسط وآسيا. تُظهر السجلات من سلالات تانغ وسونغ الصينية الحاكمة أنه كان سلعة ذات قيمة عالية، وأن رائحته القوية لها صلات تاريخية تمتد عبر الديانات البوذية والطاوية والإسلام والمسيحية.
تُحصد اليوم أجزاء أصغر من صمغ خشب العود لصناعة رقائق البخور، إذ كانت تُباع بنحو 58,000 دولار هونغ كونغي (إحدى العملات المتداولة في هونغ كونغ) للكيلوغرام الواحد في عام 2014. وتُباع الأخشاب الأكبر حجمًا، التي يصل حجمها إلى عدة أمتار، على شكل منحوتات منحوتة يدويًا – يبلغ سعر إحداها التي على هيئة قاعدة وجذع شجرة في وينغ لي إلى 1.2 مليون دولار هونغ كونغي. يقول (واه): ”تعتبر مثل هذه القطع أعمالًا فنية“.
يعد الصمغ مرغوبًا فيه بشكل خاص لاستخداماته في العطور والبخور. يُقطر صمغ العود لإنتاج «زيت العود»، وهو عنصر أساسي في العطور الراقية مثل «أرماني بريفيه أود رويال» و «إم7 أود أبسولي» الذي صنعه المصمم الفرنسي (إيف سان لوران). يُسعّر «زيت العود» بنحو 300,000 دولار هونغ كونغي للكيلوغرام الواحد – ويعد باهظ الثمن للغاية وغالبًا ما يوصف بأنه «ذهب سائل».
لكن الطلب الهائل على خشب العود خلال العقود القليلة الماضية أدى إلى تعريض أشجار خشب العود في هونغ كونغ لخطر الانقراض.
تحاول مجموعة «إيجا بلانتيشن كابيتال APC»، وهي إحدى أكبر المساهمين بزراعة أشجار خشب العود لأغراض تجارية في آسيا، إنقاذ الأشجار من خلال تشجيع مزارع خشب العود المستدامة في هونغ كونغ وعبر آسيا. ويعتقدون أنه لم يتبق سوى بضع مئات من العينات البرية في هونغ كونغ، على الرغم أن حكومة هونغ كونغ تدعي أنها تزرع نحو 10,000 شتلة سنويًا منذ عام 2009.
لكن مجرد غرس الشتلات لا يضمن بقاء النوع، لأن الأشجار تستغرق سنوات حتى تنضج. وتتعرض الأشجار الناضجة حاليًا لتهديد مستمر بسبب الصيد غير المشروع.
يقول (جيرارد ماكغيرك)، مدير مبيعات مجموعة APC في هونغ كونغ: ”يبحث الصيادون غير الشرعيون عن الأشجار الأكبر سنًا التي تعرضت لإصابة بشكل طبيعي، إذ لها قيمة أكبر، لذلك ستتعرض هذه الأشجار للتهديد بشكل متزايد. ستكون محظوظًا إن عثرت على شجرة عمرها 30 عامًا اليوم في هونغ كونغ“.
في حين أن العدد الدقيق للأشجار المتبقية في البرية قد يكون محل نزاع، فمن الواضح أن الصيد الجائر غير الشرعي هو أمر يحدث.
بالقرب من قرية شينغ بينغ الصغيرة، بالقرب من الحدود مع شنجن، يترأس مزارع خشب العود من الجيل الثالث (كون وينغ تشان) مزرعة صغيرة تضم نحو 6000 شجرة. يعتبر (تشان) مزارع خشب العود الوحيد في هونغ كونغ. وفي محاولة منه لحماية هذه الأنواع المهددة بالانقراض والحفاظ عليها وتسويقها، دخل في مشروع مشترك مع مجموعة APC.
لتسليط الضوء على محنة أشجار البخور البرية، تقدم APC جولات إرشادية حول مزرعة (تشان) والعديد من الحدائق العامة التي تعد موطنًا لمجموعات من أشجار الأكولاريا. بالقرب من مزرعة (تشان)، في منتزه بات سين لين الريفي، يكون الهواء عابقًا برائحة خشب العود المنبثقة من الأشجار التي جُردت إلى جذوع عارية. يعتبر العمل البدائي للصوص مصممًا لإلحاق الضرر بالشجرة بدلًا من قتلها.
يقول (واه): ”لن تحتوي كل الأشجار على الصمغ، لذا فإن اللصوص يقامرون“. تنتج 7% فقط من الأشجار في البرية مادة صمغية.
في شجيرات الحديقة المشبعة بالبخار والمليئة بالبعوض، تعد الرائحة المميزة علامة أكيدة على أن الصيادين غير الشرعيين سيحصلون على بعض المنافع مقابل خطر قد يؤدي إلى عقوبة تصل إلى 10 سنوات من السجن. إذا وجدوا الصمغ الثمين، يمكن للصيادين غير الشرعيين كسب مبالغ كبيرة من بيعه في السوق السوداء.
على مدى العامين الماضيين، نفذ أفراد الشرطة وقسم الحفاظ على الزراعة ومصائد الأسماك (AFCD) 35 عملية لمكافحة الصيد الجائر غير الشرعي في مناطق الصيد الأكثر شيوعًا مثل ساي كونغ وجزيرة لانتاو والأجزاء الشمالية من الأقاليم الجديدة. يخطط قسم الحفاظ على الزراعة ومصائد الأسماك الآن لتجربة المراقبة الالكترونية عن بُعد للأشجار ومنظومة الدائرة التلفزيونية المغلقة في محمية «تاي بو كاو» الطبيعية على الساحل الغربي للإقليم، بالإضافة إلى زراعة المزيد من الشتلات في مشتل تاي تونغ بالقرب من يوين لونغ.
توفر مجموعة «إيجا بلانتيشن كابيتال» جولات إرشادية في المنتزهات المحلية لتوعية الزوار حول أشجار الأكولاريا المهددة بالانقراض.
يبدو من غير المحتمل أن يؤدي زرع المزيد من الشتلات في المتنزهات الريفية في هونغ كونغ إلى وقف الصيد الجائر الانتهازي، ولكن زيادة اهتمام المستثمرين بمزارع خشب العود المستدامة بيئيًا يمكن أن ينقذ أشجار البخور المتبقية في هونغ كونغ من الانقراض.
يقول (واتس): ”لدينا مزارع لشجر خشب العود في خمسة بلدان ونؤمن بشدة بالاستدامة الشاملة والاستثمار في المجتمعات التي نعمل فيها لإحداث تأثير اجتماعي إيجابي“.
ويقول أيضًا: ”ستساعد شراكتنا الاستراتيجية مع السيد (تشان) في تقديم الدعم والخبرة المطلوبة لتطوير فرص تجارية طويلة الأجل في هونغ كونغ على أساس مستدام في حين يساعد السيد (تشان) أيضًا في إنتاج زيت العود محليًا“.